مهارة تفريغ العقل (لأصحاب التفكير الزائد)




قابلت فى حياتى الكثير من المسافرين .. بعضهم كان يسافر لأول مرة والبعض الاخر كان معتاد على الترحال .. لاحظت مفارقة ممتعة تبعث على الابتسام  .. ان هولاء الذبن بلا خبرة فى السفر قد أتوا بحقائب ثقيلة للغاية وحملوا معهم ما هو ضرورى واحتياطى وما قد تظهر اهميته لاحقا .. ملابس شتوية وصيفية .. جميع كريمات الصباح والمساء وبعد الظهر .. أكثر من حذاء .. وهم يتحركون بثقل شديد ويمكثون بحجراتهم فترة طويلة كى يغيروا ملابسهم من فقرة لأخرى .. بينما الرحالة الخبراء يحملون حقيبة ظهر واحدة فقط .. معطف واحد .. كتاب .. حذاء واحد .. وبعضهم من كثرة الترحال واعتياد السفر يأتى بأدوات ذكية .. رأيت مرة أحدهم معه غلاية شاى صغيرة تكفى كوب واحد .. يعرفون أن الرحلة لا تحتاج لكل هذا الاحتياطى من المؤن .. يمكنهم الصبر عن الطعام أو أكل اشياء بسيطة .. حذاء رياضى واحد كافى جدا لتحمل مشقة الطريق .. ليس هناك داعى للتأنق الزائد .. فهم قادمون للتأمل والمغامرة والاكتشاف والتعارف .. ولا يمكن فعل كل ذلك وهم بحقائب ثقيلة.

يمكن لأصحاب التفكير الزائد أن يبدأو رحلة العلاج من هذه النقطة .. فى ادراك انهم لا يزالوا مبتدئين .. طالما انهم يحملون حقائب ثقيلة تعيقهم عن الحركة والحياة .. عن التنفس .. عن التمتع واكتشاف الجديد .. إذا هم لا يزالوا رحالة بلا خبرة .. ومعنى هذه الخبرة انك حاولت عشرات المرات أن تخطط لحياتك .. وفى كل مرة تدرك ان هذه الطريقة غير ناجحة .. أو ليست الاسلوب الامثل فى التخطيط لحياتك انت بالذات ..

جربت أن تقسم يومك بالساعات الدقيقة ففشلت .. جربت أن تضع اهدافا وتلتزم بها ففشلت .. جربت عادات يومية ومرت أيام ولم تستمر .. اصابك الاحباط والاكتئاب والقلق .. مبروك يا صديقى .. هذه بشارات انك تنتقل من رحالة مبتدىء إلى خبير .. انت تتعلم من اخطائك السابقة .. تسافر كل مرة فى رحلة لتدرك انك لا تحتاج لهذا المعطف .. ولا هذه المجموعة الكاملة من أدوات التجميل .. ستجد ان هذه الاحتياطات مع الوقت لا تستخدم ابدا .. فلا معنى لحملها حتى لو كان عقلك يظن انها مهمة ويدرس احتمالات استخدامها .. الحقيقة انها لم تستخدم ولا مرة.

هناك حقيقة لابد ان تضعها فى حسبانك اثناء التخطيط لحياتك .. ان الانسان ملول .. وفضولى ..ومتعجل .. فإذا وضعت خطة مثالية لم تشمل هذه النقاط فهى خطة غير ناجحة .. أتت لى صديقتى مرة بمفكرة ذكية اعجبتنى .. كانت المفكرة تشمل مربعات صغيرة تضع فيها (نقاط الألم) و (المحفزات) و(العوائق) .. وجدت ان الانتباه لهذه الامور اثناء التخطيط واقعى جدا .. كيف تتجنب نقاط الالم .. كيف تستخدم المحفزات فى الدفع بك حينما تقف أو تمل .. كيف تحل العوائق .. كان الأمر يبدو لى واضحا لأول مرة .. أن هناك اشياء انسانية دائما ما اهملها وهذه الاشياء فى الحقيقة هى ما تجعل خطط حياتى لا تنجح .. فإذا ما رأيتها واضحة وتعاملت معها من منطلق انى انسانة ولست آلة .. تحقق لى نوع من السلام الداخلى وجعلنى اغفر لنفسى واعيد التجربة من جديد بلا يأس.

ايضا اثناء ما كنت اشعر بالتوهان من فرط الافكار التى تكاد تخنق عقلى اقترحت صديقة لى أن استخدم تطبيق موبايل بسيط للغاية اسمه (Google Keep) .. يمكنك ان ترمى فى هذا التطبيق اى فكرة تخطر على بالك .. مثلا أتانى وخز ضمير بتقصيرى فى صلة الارحام فأضع نقطة (زيارة عمى) .. خطر على بالى فكرة مقال فأضعها فى القائمة .. اريد قص شعرى .. السفر .. أى شىء .. عملية تفريغ لكل الهواجس والافكار التى فى عقلك .. ثم من وقت لآخر تنظر إلى القائمة وترتبها .. وكلما وجدت وقت فراغ .. احساس بالملل .. بالحيرة .. افتح القائمة و(نفذ) ما فيها .. النقطة الجيدة فى هذا الأمر انك عندما تجد نقطة استمرت فترة طويلة كأسبوعين مثلا ولم تنفذ فهذا معناه انها غير مهمة فى هذا الوقت .. أو انت لا تستطيع تنفيذها حاليا أو ليست من اولوياتك .. فأشطبها وبالتالى ستجد ببساطة انك احتفظت بالامتعة المهمة .. وتخلصت من الاشياء الاحتياطية التى يحتفظ بها عقلك بلا وعى..

عن تجربتى الشخصية فى التخطيط فهى لازالت طور التجارب المتعددة ولا اخفى عليك انه يمر على ايام استيقظ لا املك شىء محدد لفعله وهذا يجعلنى اشعر بلا انسانيتى ويصيبنى بالقلق .. لقد اكتشفت ان القلق فى ذاته له اسباب فإذا ما حلت اسبابه ذهب .. فوجدت ان تأنيب الضمير وعدم ثبات خطة واضحة هو السبب الاساسى .. لذلك عكفت على تجنب تأنيب الضمير الزائد وتقبل حقيقة انى اسعى وانى اثق فى ان الله سبحانه يبارك فى السعى ويهدى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) .. وأما افضل الطرق التى رأيتها حتى الان عملية (التفريغ) أولا بأول عن طريق الكتابة أو التنفيذ .. وعملية (الالتزام) بعادات قليلة محددة تصل بى إلى الهدف المراد .. وتقديم الاولويات على ما سواها.

الاستسلام للتفكير الزائد والقلق يقتل العقل تدريجيا لأنه يمنعه من التركيز فيما يملك حاليا .. وفيما حوله .. وما يأكل وما يرتدى .. انه لا يستطيع الاستمتاع بأى شىء لأنه دائما يفكر فى النقطة التالية .. ويظل يحسب كل الاحتمالات الغير واردة .. لقد وجدت ان التنفيذ هو افضل حل .. انه يجيب على الاسئلة (ماذا سيحدث لو) .. ووجدت ايضا ان سنة الله سبحانه فى الكون أن ينشأ كل شىء بالتدريج .. فالوردة لا تخرج مرة واحدة .. ولا الطفل فجأة يركض على السجاد .. بل كلا من مخلوقات الله سبحانه يأخذ وقته تماما فى التسوية والنضج .. وهكذا انت ايضا .. كى تبنى أى شىء .. أو تصل لأى هدف .. لابد ان تأخذ السلم واحدة واحدة بصبر وثبات .. وخير نصيحة فى الأعمال كلها قول النبى عليه الصلاة والسلام (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل).

No comments:

Post a Comment