ليس للحياة طعم واحد
هل يمكن أن تمتزج الألوان لتكون
لونا واحدا .. تمتزج القطة المشمشية بالشارع الرمادى بألوان السيارات المسرعة
لتتحول إلى لون واحد .. يمتزج الماضى بالمستقبل ليصبح نقطة واحدة فى الزمن لا
تتحرك من عندها .. رغم صعوبة تصور ذلك فإنه ممكن جدا أن يحدث داخل عقل الانسان.
يحدث أن يكون قلب الانسان كالخيل
الحر .. ينطلق سريعا ويبطىء ويتوقف ليشرب الماء .. يسترخى قليلا ويأكل من العشب
الاخضر ثم يستأنف الركض تجاه الشمس .. انه يجهل تماما طريقه لكن قلبه يملك من
الحرية والشجاعة أن يمضى ويتجاوز الغابات المظلمة .. والاشواك التى تجرح ظهره .. وعواء
الذئاب المخيف من حوله .. انه يستمتع بكل ذلك ويحس بنسمة الهواء الباردة والحارة
جيدا .. ويستطعم مياه الجبال حتى لو كانت الحشرات تطفو بها .. يرى الجمال فى كل
شىء ويملك فضول لا نهائى كى يرى المزيد فقلبه لا يشبع من جمال ملكوت الله عز وجل
.. يحدث أن يظل القلب هكذا حتى يبدأ فى التعلق بشىء .. حينها تتجمع الألوان من كل
مكان كى تتركز فى مكان واحد .. تبدأ الاشعاعات المتبعثرة فى كل مكان فى الانطلاق
بكل قوتها نحو هذا الهدف .. فيبدأ الانسان فى نسج قصص وحكايات حوله .. فى صنع
مملكة من الوهم يحبس نفسه بداخلها ويلقى بالمفتاح بالخارج .. يغلق النوافذ عن أشعة
الشمس الدافئة .. والابواب عن الوجوه المحبة له حبا حقيقيا .. ويستلقى فى سرير من
الخيال ينفصل به عن الواقع .. لذلك حينما يخرج إلى الدنيا لم يعد يرى القطة .. ولم
يعد يشعر بنسمة الهواء الحلوة .. ولا يستطعم فطوره المعتاد .. لقد سجن قلبه
بإرادته فى سجن يحسبه ملون .. لكنه لو أبصر لأدرك انه محاط بحوائط وقضبان تكتم
انفاسه وتقصر عمره.
لقد شاهدت أثر ذلك على وجه المتعلق
بشخص .. يكون بشوشا سارا مشرقا مقبلا عليك فى أول اليوم ثم يتحول فى آخره إلى وجه
حزين يائس .. انه لا يشكو وجع جسدى .. ولا يوما ملىء بالمشاكل .. انه يشكو ان
حبيبه تجاهله ذلك اليوم .. هذا كاف جدا كى يرى يومه كئيبا .. كم يظلم الانسان نفسه
... كم يجور عليها حينما يمنعها من أن تنفتح كالوردة البكر كل يوم .. تتمطى وتنظر
للعالم الواسع فى تفاؤل وإقبال على الحياة .. كم يظلم حينما يضع الافيال كلها فى
غرفة صغيرة .. ثم انه لا يكتفى بذلك بل يضع معها فأر الشك كى يحول المكان إلى صراخ
وفوضى .. فينقلب من إنسان مطمئن قلبه مفتوح للحياة إلى انسان مرتاب يرتهن يومه
بمزاج صاحبه .. هل معقولا أن نعلق سعادتنا على أحد .. على إنسان غير موجود .. على
نقطة فى المستقبل لا نعرفها .. لماذا يحب الانسان دائما المراهنة .. يحب أن ينظر
لدائرة الحظ وهى تدور ويحبس انفاسه حتى تتوقف عند الرقم الذى يريد .. ربما ينفق ما
فى جيبه كله على هذا الرهان السخيف .. فى حين انه كان من الممكن أن يذهب بهذا
المال ويعزم أهله جميعا على أكلة دسمة توطد علاقاتهم وتسجل ضحكاتهم فى ذاكرة الزمن
.. لماذا لا يستمتع بما يملك فحسب .. ويحب يومه الجديد والفرص اللانهائية التى
أمامه .. والمشاهد التى تنتظره بداية من نزوله إلى الشارع حتى يعود لفراشه ...
بإمكانه ان يكتب قصة قصيرة كل يوم يحكى فيها عن المشاهد التى رآها .. فإنها تمثل
يوما فى حياته .. وهى بالتأكيد حين تتصل تخبرك بشىء ما لم تكن منتبه إليه .. أليس
هذا أفضل بكثير من اللون الواحد الذى تصر عليه .. هل العين بكل تفاصيلها وإعجازها
خلقت كى لا ترى .. يمكن لإنسان أن يجعلها كذلك حينما يضع حائط عقلى يمنع دخول اى
مشهد إلى قلبه .. وأى طعم إلى لسانه .. انى اقول انه يفعل هذا بكامل إرادته ..
وأقول ايضا ان يمكنه فى لحظة قرار أن يهد هذا الحائط تماما ويخرج من سجنه الصغير إلى
حضن الحياة الواسع.
No comments:
Post a Comment