نسمة الهواء المتوقفة
ماذا تفعل حينما يكون الهواء متوقفا تماما .. لقد اعتدت أن تشعر بنسمات الهواء تلامس وجهك بلطف حتى انك لا تكاد تشعر بوجودها سوى حينما تختفى فعلا .. لقد جربت الجلوس أمام شاطىء (لينكاوى) فى ماليزيا مرة وقد كنت أظن ان الهواء سيكون رائعا .. فالجزر والجبال الخضراء متناثرة فى البحر والشمس تختبىء تحت كم هائل من السحب .. لكن فى خلال دقائق وجدت انى لا اطيق الجلوس على الشاطىء ووجدت القليل من الناس يجلسون بينما ذهب معظمهم يمارس ألعاب البحر من التزلج إلى الطيران .. أدركت أن نسيم الهواء فى مصر لا مثيل له .. يكفى أن تجلس على شاطىء البحر المتوسط كى يطير الورق والطعام ويطير قلبك إلى نهاية البحر .. لذلك فعذاب توقف نسيم الهواء يجعل المرء يشعر بوطأة الساعات ويفكر ماذا يمكن أن يفعل للتحمل.
هل يمكن أن يكون هذا شبيه بتوقف الافكار عن
التدفق .. والقلب عن الحب .. انك لا تحتمل توقف الاشياء عن الحركة .. وتتمنى ولو
نسمة صغيرة عابرة غازلتك .. الانسان يحب التفاعل دائما لذلك تجده يسعى للتعارف
والذوبان والصداقة.. وتجد ان المنعزل إنسان غريب لأنه يمنع وصول الناس إليه ..
يمنع قلبه من الاهتزاز سواء حبا أو غضبا أو غيرة أو رحمة .. ربما يكون فى منأى عن
أذى البشر كما يظن .. لكنه يفقد الكثير من فرص التشكل والتغير لنسخ أخرى منه لا
يعرفها .. حينما أدخل صومعة العزلة أشعر انى أفضل الناس .. وأعلاهم اخلاقا وأكثرهم
حكمة .. لكن حينما تمل الوحدة وتبدأ فى الاحتكاك المباشر ترى صورا أخرى لك .. صورة
تحبها وصورة تمقتها وتتعجب كيف يمكن أن يكون بداخلك كل هذا التناقض .. ويجعلك
تكتشف الشر وتعالجه .. وتكتشف الخير وتحبه .. لذلك بعد سنوات من تجربة هذا وذاك
تبين لى أن عذاب الناس أفضل بكثير من العزلة .. وأن ما أعانيه أحيانا من فقر أفكار
وسجن داخلى وحكمة قاصرة هى ناتج العزلة .. لأنك حينها لا تسمع قصص حقيقية من
الحياة بقدر ما ينسج خيالك أوهاما تصدقها.
كل هذا جعلنى حينما أرى فتاة تضع سماعات الاذن
وهى تسير فى الطريق .. وفتى منكب على شاشة الموبايل فإنى أريد أن أنتزعهم بيدى
وأشير إلى الطبيعة من حولهم .. حتى صوت الصخب والهمجية هى أصوات طبيعية .. صوت
ضجيج السيارات ونباح الكلب هى أصوات طبيعية تزيد من إدراكنا للواقع حولنا ..
إدراكنا انه آن الاوان لتغيير ذلك بقدر استطاعتنا .. لو كرهت الواقع فلا تفر منه ..
بل حاول أن تضع فيه نقطة جمال صغيرة .. الفرار يجعل القبح مستمرا بلا نهاية ويزداد
سوءا .. لكن مواجهة القبح بشجاعة يجعل الامر معركة بالتاكيد ستدخلها رغما عنك ..
لأن الانسان لا يحتمل الهزيمة طوال الوقت .. أعتقد أن أثر وسائل التواصل الاجتماعى
فى بلادنا بالذات قاتلا .. لانه بوابة للفرار إلى عالم نظيف .. لطيف .. مضحك ..
هذه هى الخدعة النفسية التى أرتكز عليها أصحاب تلك المواقع ..أصنع للناس منفذا
وهميا ستجدهم جميعا هناك فى تلك الارض .. ثم ابنى حولهم مستعمرة وأشغلهم بالنظر
إلى بعضهم والزهو بأنفسهم حتى يصبح عالما حقيقيا يودون البقاء فيه للابد .. عالم
بلا وجوه نضرة .. ولا مشاعر صادقة .. وقلوب جائعة للمسة حقيقية من صديق أو أبن أو
حبيب .. إن هذا يبدو بالنسبة لى ثمنا جيدا لاختيار العزلة .. واختيار عدم التفاعل
مع الواقع.
اننى الآن أجد كفة مساوىء شبكات التواصل
الاجتماعى تتثاقل كلما أمضى الناس وقتا أطول فيها .. الكآبة تعلو وجوههم .. وصبرهم
نافذ .. وعمرهم يمضى بلا أحساس بعدد ذرات الرمل المتبقية .. كل هذا لأنهم توقفوا
عن حركة الحياة اليومية.. يمكننا التفاعل مع وجبة طعام غير صحية.. وعمل شاق ..
وأهل متعبون ببعض الصبر ومحاولة إصلاح الوضع بكل طريقة ممكنة .. يمكنك ان توقن
بتلك القاعدة .. لا شىء يبقى على حاله أبدا وبالتالى فإن شعرت بمحدودية قدرتك على
إصلاح القبح فتأكد انه يوما ما سيتغير .. ولكن ما ستتذكره جيدا وتسعد به انك حاولت.
كنت أمشى منذ أيام وكان الهواء ثقيلا ثم مررت
بحديقة ورد .. شممت رائحة ألوان الورد الزكية وخصوبة التربة رغم وجود نسمات ضعيفة
فى الهواء .. تأكدت انه حتى فى وسط المعاناة .. يمكنك ان تشعر برحمة الله
بمخلوقاته اللانهائية وتستمتع بها .. يمكنك ان تعرف انه خلق كونا رائعا ملىء
بالجمال .. وأن الحر والبرد لهما سحرهما .. بعدما تكون قد أكتويت بنار شهر يوليو
فإنك تشتاق لشهر نوفمبر .. ثم يأتى يناير كى تشتاق ليوليو مرة أخرى .. لكنى اتسائل
ماذا لو حاولنا الاستمتاع بالآن دون الاشتياق للغد .. لو حاولنا تركيز حواسنا
قليلا .. وربما كثيرا على اصطياد لحظات السعادة من الهواء المحيط .. ربما كنا
بحاجة إلى فقط أن نفتح مسام الجسد والقلب إلى أقصى اتساعها.. وأن نرش أجسادنا
بالماء ونأكل المزيد من الايس كريم ونرتدى الالوان المبهجة .. وبالتالى فأن ممارسة
طقوس الصيف أفضل بكثير من صب اللعنات عليه.
وأنا أكتب الان أشعر بنسمات الهواء الحلوة
تتحرك حولى .. وقد كانت فى بداية المقال واقفة فوقفت أفكارى .. حاولت جاهدة أن
أقاوم ثقل الهواء وأكتب شىء حتى لو كنت أستمده مما حولى فوجدت أن الافكار تنساب
وتتحرك .. هكذا يتغير حال الكلمات وحال الهواء .. وهكذا أؤمن انه يتغير حال ما
نسعى ونصبر على تغييره.
No comments:
Post a Comment