صوت فى كابينة القطار





أطلق القطار صافرة الرحيل .. هرع الناس من كل مكان وتقافزوا تباعا داخل القطار .. ظل منهم القليل متشبث بأيدى أحبائه يحفظ السلامات والوجوه التى لن يراها سوى بعد أعوام ... لو أبتكر أصحاب المحطة محل يعبأ رائحة الأحبة فى زجاجات لربح الكثير .. لكنهم لا يلتفتوا سوى للحقائب الثقيلة ذات الوزن .. سكنت الفتاة فى قلب القطار تحمل حزن عميق .. تلصق جبهتها بالنافذة لعلها تسند رأسها المتعب وترسم أنفاسها همسات قلبها الذى يئن .. لقد أعتادت أن تودع وفى كل مرة تقسم أن تنسى سريعا .. وأن ترحل مهرولة .. لكن الحنين يلحق بها .. يشد كتفها ويتوسل إليها أن تبقى .. أن تعطى الفرصة لاصلاح الامر .. لتضميد الجروح .. لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .. لكنها كانت لا تؤمن سوى بالبدايات .. لا تؤمن بإصلاح المكسور .. وإضاعة الوقت فى التفكير أين الخلل وكيف نرممه .. إن هذا الامر يتطلب جهدا نفسيا عظيما .. جهد للمغفرة أولا وهذه أول عقبة .. لو تجاوزتها قابلت تحمل الكسر من جديد وإحتمالية عودة الامور إلى وضع الصفر .. وهى لا تتحمل الفشل يتكرر كأنه دوامة أبدية .. ولا ترى نهاية الدائرة سوى بخرقها .. والرحيل منها فى أول قطار.

بدأ القطار فى مغادرة المحطة وتدافعت صور الاشجار والناس كأنها عصيان رفيعة ملونة .. كان القطار يسير للأمام..للأمام فقط .. يسير مع الزمن فى خط واحد .. لا يتوقف فجأة حينما يصادف وجه يعرفه .. لا يلتفت لكم الصيحات التى تنادى عليه أن ينتظر .. من لم يلحق الركوب فهذا ذنبه  .. من لم يسرع الخطى ويأتى فى الميعاد فقد فاته المستقبل .. أحبت القطار كثيرا فهو صوتها الداخلى .. صافرته ترن فى أذنها من وقت لآخر كلما تأخرت عن أحلامها .. صوت قضبانه المتقدة يشيع بداخلها الرغبة فى الحركة والسرعة .. حتى محطاته الثابتة تؤكد لها حكمة القطار وإنتظام جدوله .. يعرف كيف يتدرج فى الوصول إلى نهاية الخط .. لا يأخذ الرحلة كلها طلقة واحدة بلا توقف .. كل ما فى القطار تعشقه لكن هناك شىء واحد لم تفهمه بعد .. لماذا رغم سرعته وتقدمه للأمام تظل كابينة القطار ثابتة .. انها تستطيع أن تشرب فنجان القهوة فى استمتاع وتقرأ كتابا عميق الفكر ورغم ذلك لا تشعر بإضطراب حركته .. كيف يملك تلك القدرة على حفظ امعائه وتفكيره ومشاعره من تغير المشاهد بالخارج .. كيف لا يتأثر بتقدم الزمن .. لقد حفظت تلك القاعدة (إذا أردت أن تسير للأمام فعليك أن تلقى بالماضى) .. لكن حينما تطبقها فإن الماضى يقفز كاللص فجأة من النافذة ويعيث فسادا فى أفكارها ومشاعرها .. يجعلها غير قادرة على استكمال الرحلة رغم أنها مليئة بحماسة البدايات .. لذلك كل بداية عندها تُقمع فى لحظتها .. تصبح مجرد نقطة زمن متكررة لفشل جديد .. منذ وقت طويل لم تستمع ببداية بكر خالصة من الشوائب .. بداية لا تحُمل أعصابها وعضلاتها ثقلا يبطىء من حركتها .. كيف يمكن أن تفعل ذلك وهمسات الماضى كفحيح الافعى .. تبث السم فى طاقتها حتى تنهكها تماما .. لقد تعبت من هذا كله .. تمنت لو تستطيع فقط أن تنسى .. كمثل هذا القطار العظيم اللامبالى.

أتى الجرسون حاملا الغداء .. رائحة الدجاج الشهي المغطى بالتوابل وصحن الأرز الأبيض .. كان هذا كافيا ليثير شهيتها فهى وقت السفر تتذوق الجمال فى كل شىء .. وتبدو لها حبات الأرز لآلىء صغيرة لامعة وطبق السلاطة زمرد وياقوت .. هدأ قلبها قليلا وتفرغ كى يهنأ بتلك المتعة .. وأثناء ما كانت تأكل اقترب منها الجرسون ثانيا يسألها عن تقييمها للخدمة .. فكرت كم مرة يفعل فيها ذلك دون ملل .. وهل يتذكر أخر تقييم سمعه أم انه مثل الألة تتكلم بلا وعى .. بالتأكيد لو كان يومه ملىء بالزبائن الراضية لبدا هذا فى صوته ووجهه.. والعكس صحيح .. سألته بدورها (ما رأيك أنتَ بحالة الغداء اليوم؟) .. ضحك مجاملا وأخبرها انه يكون سعيدا حينما يرى أطباق الزبائن فارغة .. وعدته انها ستقوم بتنظيف الصحن جيدا ثم وضعت الشوكة والسكين فى وضع متوازى دلالة على رضاها عن الطعام .. قد يفهم الجرسون أو لا يفهم تلك العلامة لكن أسعدها انه فى العالم لغات كثيرة مشوقة.. أدركت ان هذا القطار يريد أن يكلمها .. ينفرد بها على جنب كى يهمس فى قلبها شىء .. لكنها لا تفهم لغة الدوى والسكون تلك .. كشرفة موريس .. صفر .. واحد .. رغم ذلك بدأ الدفء يسرى فى أوصالها بعد وقت الغداء وأقتربت الشمس من الغروب فعرفت انه وقت الكلام .. وأن قلبها الآن مستيقظ منتبه جيدا لذلك فهو قادر على أن يفهم أى لغة حتى الصمت .. تكلم القطار فى البداية بتوقف مفاجىء قبل أحد المحطات .. 

وقف فى الظلام عدة لحظات دون سبب .. هل كان خائفا من عقبة على الطريق .. قطاع طرق .. أحدهم يحاول الانتحار .. قطار آخر على وشك الاصطدام .. أم انها لحظة سكون مع الكون حوله .. تردد صوت القطار الأجش فى قلبها .. وكأنه محمل بأطنان من الفحم وسنوات الترحال .. لم يسألها عن وجهتها .. لم يلومها أو يحاسبها .. قال لها فقط (ليلة سعيدة .. أليس كذلك؟!) .. أبتسمت ابتسامة واسعة (نعم .. كم أتمنى لو تمر الليالى كلها هنا .. فى تلك المنطقة الخالية من البشر .. والمحطات .. والأحلام .. وكل شىء إلا العشب وحشرات الليل وقرص القمر .. كم أتمنى لو يتوقف العمر عن التقدم ويعطينى الفرصة كى أكون فى اللازمن) .. قال لها: (لكنى لن أظل هنا طويلا كما تعلمين .. انها بضع دقائق وأتحرك من جديد) .. سألته (هل تحب ذلك؟) .. أخبرها (لو كنت تحملين بداخلك أشكال وألوان من الناس .. يحمل كل منهم أملا وميعادا وأطفالا يريد احتضانهم .. وأبوين يريد البقاء معهم .. ووطنا يشتاق إليه .. بالتأكيد سيدفعك هولاء جميعا للتحرك رغم أنفك) .. سألته: (ولماذا لا يتحركون وحدهم .. لماذا على أن أتحمل الآلامهم وهواجسهم الخاصة .. انهم ثقل على ظهرى .. يمنعنى من التفكير الصافى .. وحزم أمتعة الإرادة كى أصل لما أريد .. اننى اتمنى أن أكون قطارا بلا ركاب .. يقف متى شاء .. ويحيد عن المسار ثم يعود .. حر لا تحده قضبان المكان ولا الزمان).

نظر إليها نظرة طويلة ثم قال لها (تعالى .. سأريك شيئا) .. رافقها خارجا إلى ظلام الليل ثم وقفا أمام القضبان .. كان الحديد قد علاه الصدأ والعشب نما حوله .. قال لها: (تخيلى لو كنت أسير بلا قضبان حديدية ..هل يمكنك ان ترسمى طريقى؟) .. قالت بكل ثقة: (بالطبع .. أنت تعلم إلى أين تريد الذهاب .. يمكنك السير من أى مكان) .. قال لها: (وماذا لو أوقفتنى غزالة تائهة .. ثم هب إعصارا .. ثم نفذ الوقود .. هل تظنين بعد كل ذلك انى سأتذكر وجهتى) .. فكرت فى ولديها اللذين فارقتهم .. ودرجة الماجستير التى زهدت فيها فجأة .. وأبيها الذى ضجرت من أفعاله الغريبة .. بدوا أمامها قضبان حديدة خانقة .. لكنهم بشكل ما كانوا يرسمون خطا لحياتها .. خط لم تصبر عليه ففارقته جميعا .. أصبحت الأن خارج حدود القضبان تائهة .. رغم سعادتها بالحرية إلا انها فقدت معالم الطريق .. من أين تبدأ وإلى اين تنتهى .. أطرقت رأسها للحظات وقالت ( لكنى لم أختر هذا الطريق .. لم أختر أبدا نقطة البداية) .. ربت على كتفها قائلا : ( ولا أنا .. ولا أحد أختار بدايته لذلك من الصعب أن ألقى بالركاب الذين حملتهم معى منذ أول محطة .. هم سيغادرون عاجلا أم أجلا .. سينزل كل واحد فى محطته .. لكنى أسعد كثيرا أنى ساعدتهم على الوصول أثناء رحلتى .. ويحمل قلبى من أثرهم الكثير حتى بعد نزولهم .. أنظرى إلى جنبات القطار .. شمى رائحته .. ستجدين أن كل زواية من الكابينة معبئة بحبهم وسعادتهم .. إنى أفخر انى قطار ثرى يحمل بداخله الكثير من القصص والاسرار .. ورغم ذلك لم يمنعنى هذا أبدا من الوصول).

ترقرقت الذكريات من قلب الفتاة وانسابت دموعا تروى الارض .. فكرت فى الماضى .. لا تنفك تفكر فيه رغم هروبها المستمر منه .. تأكدت انه راكب أصيل لابد من استضافته.. سألت القطار :(كيف يمكنك أن تستقبل نفس الراكب كل يوم .. كيف تتحمل فوضى وجوده بداخلك) .. نظر إليها فأدركت انها بغير قصد تعنى نفسها .. وفكرت انها جزء من الفوضى داخل آخرين وربما أحدثت من الألم بداخلهم أكثر مما فعلوا .. قال لها :( إن الكبائن بداخلى متسعة .. وطاقم التنظيف يغير الملاءات والمفروشات كل يوم .. ويعملون ليل نهار لخدمة الكل .. يمكن لهذا الراكب أن يدخل أى حجرة لكن تأكدى انى أملك من العمل الكثير طوال اليوم ما يجعلنى لا انتبه لوجوده .. وأملك من المساحة الواسعة والملاءات الكثيرة والطعام الطازج ما يجعلنى أغفر فوضاه المستمرة).

تصاعد البخار وبدأت قضبان القطار ترتج من جديد .. صاح بها : (أصعدى الان سنبدأ بالتحرك) .. ركضت سريعا وتعلقت بالباب ولامست نسمات الليل الجميل وجهها .. فوجئت بأبتسامة واسعة على قلبها .. أثناء ما كان القطار يركض مسرعا للحاق بميعاده فى المحطة القادمة سمعت صوت حشرات الليل ونقيق الضفادع .. وكأنهم يباركون رحلته ويؤنسونه وهو يلوح لهم .. غاصت فى مقعدها تفكر فى بداية جديدة .. لكنها ليست بداية من العدم ..
 وليست بداية قائمة على خراب ما قبلها ..
 إنما بداية قطار سيحمل ركابه ويصل بهم إلى النهاية مهما تكلف الأمر..

No comments:

Post a Comment