لا تكتب لأحد




الاستعراض هو مرض العصر .. ولن أقول أن الاستعراض هو صفة تخص فئة من الناس .. بل اننى اراها فى الالاف من الناس حاليا .. ربما يكون انا وانت ممن يصيبهم هذا الهوس من آن لآخر .. هو فى بعض الناس صفة ملازمة .. ولكن نوبات الاستعراض تنتاب الكثير منا أثناء ملازمة مواقع التواصل الاجتماعى .. وتمس حتى العاقلون الناضجون وهو ما جعلنى اؤمن بضعف الانسان أيا كان علمه وخبرته فى الحياة .. وبضرورة ان ينتبه لصحته العقلية والنفسية والجسدية فى كل مراحل حياته .. لا يرتكن إلى علم ولاسن ولا خبرة حياتية.

لن اسهب طويلا فى أسبابه السطحية .. كالشعور بالغيرة أو الرغبة فى قول (أنا موجود وسعيد وناجح) بصرف النظر عن مصادقة ذلك الواقع .. أو كالمرور بأزمات وجودية وإحباط يجعل المرء يحاول احراز اى نوع من النجاح وإن كان من خلال الاعجاب والتشجيع .. لكنى سأحاول الغوص فى نتائجه وعلاجه .. ما الذى سيحدث لو أننى قضيت جزءا كبير من الوقت .. أو حتى شطرا منه فى محاولة استعراض الصور .. الافكار .. التجارب .. وانى لا اتحدث هنا عن النوايا الصادقة فى مشاركة التجارب والحكمة .. هذا بالطبع هو الرائع فى الأمر والذى يترك أثره الحقيقى فى الناس .. الكلمات الصادقة التى تخرج ملتهبة من الصدر .. التى لا تريد سوى النصح والإصلاح .. لكنى اتحدث عن مشاركة التجربة للاستحواذ على المدح والتشجيع .. ما الذى سيجنيه حقا؟ .. لا شىء.

لماذا لا شىء .. لأننى رأيت أكثر من انسان يموت فى خلال سنة واحدة .. ورأيت أن جميعهم بكل تاريخه العريض والطويل من التجارب الانسانية ذهب إلى الاخرة بلا شىء سوى عمله .. ونيته فى هذا العمل .. أما الباقى فلا يدرى عنه ولا يهمه مهما تكاثر محبينه ومعجيبه ومن يكتبون سيرته الذاتية ويحللون أفكاره العظيمة .. وهو إدراك يجعلك تتسائل .. ما تلك الحماقة التى اضيع عمرى فيها؟ .. لماذا لا انتبه لبناء الآخرة .. أن أى عمل لا يكون خالصا لوجه الله تذروه الرياح .. لا قيمة له أصلا .. فإذا ما نظرت إلى نظرات الاعجاب وكلمات المدح والتأييد ولذتها اللحظية.. فإنك تجد ان الامر لم يكن يستحق ساعة واحدة .. بل جملة تكتبها من أجلهم .. هذا أولا ... ثانيا حينما تفكر أنك تشارك التجربة كى تشعر بفرحتها ولذتها فإنى لأعجب ما الذى يجعلك لا تسعد بها وانت تنظر إليها من فوق سريرك؟ .. وانت تتأمل صور الماضى السعيد وتستعد كل ذكرى حلوة وتبكى حنينا لكل شىء احببته .. لكل شىء تغير فيك .. لكل تجربة أنطبعت معالمها داخل خلايا قلبك .. أليس كافيا سعادتك تلك .. لماذا نبحث عن تأكيد (الاخر) لسعادتنا وحكمتنا ..  الحكمة تقول (ليس هناك ذكيا يقول للناس انه ذكى .. كما انه ليس هناك سعيدا يمشى يكرر من وقت لآخر انه سعيد) .. ان السعيد حقا بتجربته هو الحريص على أن يسمع تجارب الاخرين ويسوق إليهم تجربته كى يعنيهم ان يجدوا الطريق ايضا .. أن يكتشفوا ويعرفوا كما عرف .. لا أن يشعروا بضآلتهم معه وعدم قدرتهم على مسايرة تجاربه.

اننى اجد الناس دائما تنظر لبعضها .. حتى انهم ينظرون لطعام بعضهم رغم ما فى اطباقهم من مكونات رائعة .. انهم يخافون ألا يحصلوا على الاحسن .. أو يفوتهم شىء .. لذلك فهم ما بين تطلعهم للغير أو محاولة للاثبات للغير انهم الافضل .. لكن شعور الرضا ليس كذلك .. الرضا شىء داخلى ينبع من احساس عميق بالامتنان والحمد لله على نعمه .. على الصحة والعقل والطعام والسكن والجو الجميل والقمر وإلى ما لا نهاية من نعمه .. انه شعور حينما تكرر من قول (الحمد لله) يغمرك حتى تظن انك لا تستطيع الكلام .. لا تستطيع أن تعد النعم .. ولا تستطيع أن ترد الجميل .. لكنك تستطيع شىء واحد .. أن تقول الحمد لله .. تستحق يارب ان تكون العبادة كلها لك .. والعمل كله لك ..


إذا حاول بكل قوتك ان تقاوم هذه النزعة التى من السهل أن توجد فى أى واحد منا .. بل انها نزعة اساسية إذا أرتبطت بالدنيا لأن الانسان ظمآن دائما للحب والقبول .. وهو فى رحلته يبحث عن نبع يرويه من وقت لآخر .. فإذا لم يكن ذلك النبع حقيقيا وقويا لجأ إلى البرك والمستنقعات والوحول كى يجد قطرات ترويه .. الاستسلام لحب الاعجاب مخدر مريح ومبهج .. لكن يجب أن تراقب تراكم المشاعر .. فالانسان الذى اعتاد الغضب مع الوقت يصبح نوبات غضبه بركانية بلا حد .. والذى أعتاد الاستعراض يصبح دائما عطشان لكلمة استحسان .. ذليلا بحق للناس حتى لو كان فوق رقابهم وتجاربه ثرية وواسعة .. وان الذل لصفة جديرة بأن تمقتها وتبغضها وتبغض كل طريق يؤدى إليها.. وتأكد انك حينما تعدل البوصلة لله رب العالمين .. ستجد انك تريد مشاركة كل خير .. وأن كلماتك القليلة وتجاربك الصغيرة يمكنها أن تغير أمة بالكامل إن شاء الله .. فالله يبارك فى الصدق ما لا يبارك فى غيره (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء .. تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال فى الناس لعلهم يتذكرون).

 فاللهم عافنا وأصلح قلوبنا ونعوذ بك ان نشرك ما نعلم ونستغفرك لما لا نعلم واجعلنا يارب هداة مهتدين.



No comments:

Post a Comment