هل جربت أن تسقط فى قاع بلا نهاية؟




تخيل انك تسقط فى قاع بلا نهاية .. انك تصرخ صراخا عاليا ثم تجد ان هذا الصراخ لا ينتهى .. لا تكف كلمة (ااااه) عن التردد فى المكان .. هل تصدق هذا؟ .. ببساطة هو لا يمكن .. لم يحدث ابدا ان رأيت احدا يسقط للأبد .. هكذا قانون الجاذبية فى الحقيقة .. هناك أرض دائما تستقبل الاشياء .. مهما طال الطيران فى السماء لابد أن ترتطم بأرض شديدة الصلابة.

حسنا .. بما أن هذا قانون الاشياء المادية فإنه بالضرورة قانون أفكار الانسان ايضا .. لا يمكن أن يظل خيال الانسان مجنحا يطير فى سموات بعيدة ثم لا يحط على أرض .. وإذا ما حدث ذلك فإن الانسان يغرق .. من لا يجد ارض يستقر عليها فإنه بعد فترة من الوقت ستتدافع الافكار إلى رأسه وحلقه وتكتم انفاسه .. لأنه كلما حاول أن يقيس سلوكه وأفعاله إلى قيم لا يجد ثباتا ولا ايمانا بشىء .. انه يجد أرض لا تلبث أن تتهشم تحت وطء الاحداث والتجارب .. دعنا نتفق انه من الصحى تماما ان تنكسر مستويات الوهم التى نقف عليها من وقت لآخر.. لكنى اتحدث عن تلك الارض الاخيرة التى تستقر عندها أقدامه .. هل يملكها؟ .. هل يعرفها؟ .. هل وصل إليها قبل ذلك؟ .. ربما فى حياتنا العادية نعتبر الغرق شىء استثنائى .. شىء يفضى إلى الموت .. لكن فى عقل الانسان فإن الغرق هو بداية رحلته الفكرية .. وهو فى هذا يجاهد كى يجد الارض التى يطمئن إليها .. لكن فى نهاية التجربتين .. سواء تجربة السباحة الجسدية أو الفكرية .. لابد كى تحيا أن تلمس تلك الارض وتثبت عليها لأنها التى ستقيس عليها كل شىء يحدث لك .. والتى تفسر على أساسها ما تمر به من تجارب حلوة ومؤلمة.

قرأت فى كتاب (فن اللامبالاة) لمارك مانسون .. وهو بالمناسبة كتاب رائع مر صاحبه بتجربة حياة ثرية .. لكنى لا أرى السبب هو التجربة فقط .. بل عقله المستنير الذى هداه الله عز وجل كى يستنبط افكارا صحية من تجاربه.. كان يقول (إن الانسان يتحمل مسئولية كاملة عن مشكلاته .. ربما لست قادرا دوما على التحكم فيما يحدث لك لكنك بالتأكيد مسئول عن التحكم فى كيفية تفسيرك لما يحدث .. إضافة إلى تحكمك فى كيفية استجابتك) .. لكنى تسائلت (كيف يمكن أن يفسر الانسان احداث حياته تفسيرا صحيحا؟ .. هل فسر التجربة بطريقة صحية أم انه متأثر بغضبه وانفعاله وهوسه بأن يبرر اخطائه ويلقى التهم على الاخرين .. لذلك فإن معيار الهوى لا يصلح بأية حال ان يستند عليه الانسان .. لأن الهوى جاهل بجهل الانسان وقلة خبرته .. وقليل الصبر على المتعة والشهوة .. ويميل إلى الكسل والخمول .. كما انه يحب كثيرا أن يأخذ ولا يعطى إلا اذا وجد مبررا قويا ومصلحة لذلك .. وبالتالى فإنه سيبرر مواقف الحياة من هذه المعايير السيئة .. لذلك قال الله سبحانه ( ومن أظلم ممن أتبع هواه بغير هدى من الله) .. (أرأيت من أتخذ الهه هواه) .. ذم الله سبحانه هذا المعيار لأنه يأخذ بيد الانسان إلى حفرة مظلمة.

تسائلت هل يمكن أن يكون المعيار تجارب الناس وأفكار علم النفس والفلسفة وقراءة الأدب والفكر والسير الذاتية .. انها مادة ثرية جدا تعلمت منها الكثير وكانت لى محيط من العلم والخبرة .. اننى انظر لكتاب سيرة ذاتية وكأن أحدهم أمسك بعمره وضغطه وعصره واعطانى خلاصته فى زجاجة .. لكنى لازلت أرى علم الانسان قاصر .. ومتأثرا ايضا بالهوى .. وبالكذب .. وبالرغبة فى تبرئة نفسه من اخطائه .. وبحقيقة أن القوى هو من يسرد التاريخ .. وان خيال الفنانين احيانا يشط عن أرض الواقع .. بل كثيرا ما يجعل الناس تعيش حالة من الوهم تجعلهم أكثر تعاسة .. اننى اتحدث عن الجوانب المظلمة من التجارب الانسانية وليس باب النور الذى ينفتح فى النهاية .. سألت مرة أحد علماء الفلك وقد كان يشرح كيفية تحول الفرضية إلى حقيقة علمية .. ورسم لنا هرم متدرج يبدأ من نقطة التأمل والمشاهدة لظاهرة كونية تحدث .. مرورا بالفرضية .. ثم القياس واختبار الفرضية فى ظروف مختلفة .. إلى ان تتأكد حقيقة علمية من الصعب نقضها .. سألته (هل يمكن أن يحدث ذلك مع العلوم الانسانية؟) .. قال (هذا صعب .. لأن البشر ليسوا كالحديد خواصه لا تتغير .. البشر يختلفون من مكان لآخر ومن وقت لآخر) .. وهذا شىء اجده رائعا جدا ومثيرا للفضول والبحث .. أن يكون عقل الانسان لا يجاريه مخلوق من مخلوقات الارض.

لكن هناك حقيقة فيما قرأته فى الكتب وتجارب الناس .. ان الخير مثلا أقوى وأعمق من الشر .. بل إنه فى قلب الشر .. ومعنى ذلك انه حينما يتأكل الكذب والغضب والقسوة والقتل والخيانة وتمر سنوات طويلة عليه يلتهم بعضه بعضا .. يصل الناس فى النهاية إلى معانى الصدق والرحمة والسلام والنور .. وجدت فى المذكرات الانسانية دائما أن الانسان حينما يمر بفترات كان فيها انانيا قاسيا مزيفا فإنه كان يعانى .. بينما حينما يبدأ فى العطاء والحب فإن كلماته تفيض بالرضا .. كلمات الحكمة متشابهة جدا وتتكرر كثيرا.. وكلما كانت تجارب الانسان عميقة ومؤلمة كلما كان احساسه بها أعلى وإيمانه أقوى .. لم يخبرنا احد كيف نفعه الشر والانانية فى تحقيق احلامه .. وإن فعل فإن نهايته الحقيقية لهى أصدق راوى عن حياته.

لقد وجدت ان أفضل أرض .. وأثبت ارض .. الارض التى لا يخاف الانسان ان تتهشم من تحته .. هى الايمان بالله .. وبكتبه ورسله .. لأن كل ما اخبر به من الحكمة كان صادقا ... ولأن السلسلة الانسانية التى تسلمت الكتاب ومُرر المنهج الربانى من خلالها لم يُعرف عنها سوى الصدق والاحسان .. لم يعرف احدا عن ابراهيم أو عيسى أو موسى او محمد عليهم الصلاة والسلام جميعا أن احدا منهم كان يسعى لشهرة ومال .. او صار ملكا من الملوك .. كلهم أتوا الدنيا وذهبوا وسيرتهم نظيفة تماما وأثرهم لا يزال موجودا بعد الالاف السنين .. لذلك فإن بداية ثبات الاقدام هى البحث عن الله ذاته .. اليقين من وجوده .. ستعرف ذلك فى كل شىء .. بداية من سؤالك (من اين اتيت وإلى اين أذهب ولماذا خلقت) .. تلك الاسئلة التى لا يكف العقل عن إلقائها فى وجهك من وقت لآخر .. إلى استنجادك بقوة عالية فى وقت الكرب والوحدة والألم والحيرة واستجابتها لك فى كل مرة .. لا تكف عن الرد والاجابة والرحمة .. مرورا بكل تفاصيل الكون الدقيقة والمذهلة والمتناغمة فى خلقها جميعا .. أن حقيقة وجود الله عز وجل تجعل الانسان يطمئن تماما إلى وجود ركن شديد يستند إليه ... فإذا ما بدأت من تلك النقطة وتسائلت عن معايير الصح والخطأ .. ستجد فى كتابه ما لا يخالف منطق العقل وما يدعم منظومة الاخلاق التى يرتاح إليها ضميرك.. هى الارض التى يبدأ منها من يريد حياة صحية متزنة سعيدة .. أو الأرض التى ينتهى إليها مسافرا حائرا رمته امواج الحياة بعد رحلة طويلة.



No comments:

Post a Comment