هناك صراع رهيب ما بين فريقين بالتحديد .. فريق (أتبع شغفك) وفريق (أبق فى عملك) .. هذا الصراع تطور كثيرا لأن الانسان انفتح على احتمالات كثيرة تغريه بالتجربة والنجاح .. وتطور لأنه يقضى ساعات كثيرة بشكل مبالغ فى العمل راضخا لمديره فى العمل أو احتياج الشركة التى (لا تستحق مجهوده) .. أصبح من يقفز متخطيا حاجز الوظيفة الثابتة أعلى بكثير من الجيل القديم الذى عاش على البيروقراطية والوظيفة الحكومية يؤمن بها كأنها ضمانه فى حياة مستقرة .. ومع تلاشى هذه الوظائف وسوء رواتبها أصبح الجمهور العام يشكك فى صلاحية هذه الاحلام البائسة ويقارنون بينها وبين العالم الرأسمالى المتقدم الذى يركض وراء التميز الفردى .. أيضا زهد الناس فى الالقاب القديمة .. دكتور .. مهندس .. صيدلى .. اصبحت هذه الكلمات كوابيس خصوصا لمن عاشها بالفعل وأُرغم على دراسة مجالات لا يحبها .. فأصبح يُرجع احباطه فى الحياة لهذا السبب الوحيد حتى لو كان هناك أسباب اخرى لا ينتبه لها أو يعيرها تركيزه الكافى كالمشاكل الاسرية واخلاقه النفسية التى فى أمس الحاجة إلى التغيير والاصلاح .. فكرة اننا نركز مشكلة الحياة كلها فى سبب واحد أمر خاطىء وغير حكيم .. لأنك لو ذهبت إلى مهنة اخرى .. حياة أخرى بنفس الاخلاق النفسية من قلة الصبر والانانية وعدم الاتزان العاطفى وعدم تحمل المسئولية لواجهت مشاكل اخرى .. فالبداية تكمن فى إصلاح النفس وليس فى المهنة التى نعمل بها أيا كانت ..

بداية الأمر أن تعرف انك لست وظيفتك اصلا .. وان بطاقة التعريف تلك تشرح اخلاقك وليس ترتيبك الوظيفى .. لأن الانسان بتغير مراحل حياته يغير عمله وهذا ليس شيئا صعبا فى ذاته .. هو صعب حينما لا يكون الانسان متوازنا من الداخل .. حينما تكون انفعالاته نارية .. وصبره نافذ .. واماله كلها تتوجه إلى شخصه .. حينها يصبح لوم الاخرين فعلا طعنات نافذة لأنها تصيب كبد الحقيقة .. حينما تتهمك اسرتك انك لا تبالى بهم .. لا تجالسهم .. لا تشارك فى حل مشاكلهم وهمومهم .. فلا أتصور أن اى نجاح خارجى سيرضيك .. بل ربما يخرج احد اولادك او احفادك أو امك كى تخبر العالم كم كنت انسانا مريعا انانيا .. وبذلك يفقد نجاحك كل مصداقية وتهبط إلى القاع وانت على القمة بالفعل .. لقد سمعت قصصا كثيرة عن أدباء وفنانون بل ومدربى تنمية ذاتية وعلاقات عاطفية وخرج ذويهم المقربين كى يخبروا العالم انهم بيوتهم خربة .. فما النجاح فى ذلك .. واى فرحة تشعر بها وانت تكذب على نفسك وتقنعها انها غيرت العالم.

الفكرة كلها فى أن الشغف هذا يعنى ملكات وهبها الله لكل انسان .. وهو حينما يحب الادب والموسيقى والفكر لا يستطيع أن ينصهر فى عالم الارقام والحسابات .. وهو حين يحب الناس والصداقة والكلام فهو لا يستطيع أن يتحمل الجلوس ساعات طويلة فى مهنة تتطلب التركيز والانعزال .. لذلك فنحن نكره ما هو عكس طبيعتنا وهذا مفهوم تماما ولا استطيع أن اشعر بالسعادة ابدا وأنا امارس كل ما هو ضد طبيعتى .. لذلك فالبحث عن عمل يناسب قدراتك التى تدركها يوما بعد يوم أمر ضرورى .. ولكن الذى يجعل الكثير من الناس يفشل اثناء بحثه ويعود راضخا إلى عمله الذى لا يحبه .. هو انه لا يلتزم .. لم يقل أحد ان النجاح يعنى وظيفة محددة .. ولكن اتفقوا الناجحون جميعا أن النجاح يعنى الالتزام .. ألتزم بفعل أى شىء كل يوم لمدة قصيرة ستجد انه بعد فترة يتطور ويكبر وتظهر معالمه .. ألتزم بتربية قطة .. بزراعة وردة .. بالكتابة .. بالمذاكرة .. بمراقبة النجوم .. ستجد ان النتيجة مرضية للغاية .. هذا يحتاج لكثير من الصبر والفرامل لأهوائك الكثيرة وإلى تقليل مصادر التشتت .. كوسائل التواصل الاجتماعى الذى أراها السبب الرئيسى فى تشتت عقل الانسان وتفرق جهوده .. انت بحاجة إلى الصبر والالتزام لفترة طويلة على عمل تراه مبشرا لك .. ونصيحة منى عن تجربة أو لأقل عن معاناة فكرية .. لا تفكر فى النتائج .. أستمر فى العمل وسترى الافكار الصحيحة تأتى إلى عقلك كما قال مارك مانسون فى كتابه الرائع (فن الامبالاة).

كما انى اضمن لك الاحباط المستمر لو أن غايتك هى السعادة فقط لأن الانسان خلقه الله سبحانه بتكوين لا نهائى .. لا يروى ظمآه سوى معرفة الله والقرب منه .. أى تعريف اخر للسعادة مؤقت يزول ليس بوصوله فقط .. بل بمجرد الاقتراب منه .. هكذا خلق الله سبحانه الانسان .. خلق عقله المعجز الذى يظل يفكر ويتمنى ويأمل إلى ما لا نهاية .. فإذا أراد السقف الذى يرضيه فلن يجد سوى حب الله واخلاص العمل له أيا كان.. أخلاصه صدقا ورغبة فى التقرب وفى نفع الناس وليس فى تحقيق الذات وتعظيمها ..  حينها تنتظم اعماله حقيقة وتصبح كلها لوجهة واحدة فلا يعانى التشتت ولا اليأس ولا موجات الاحباط .. قال الله عز وجل (وأن هذا صراطى مستقيما فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون).




هل شعرت يوما انك تريد ان تمشى للأبد .. تتكلم للأبد .. تكتب للأبد  .. تملك طاقة كبيرة ووجدت اخيرا شىء تحبه فتريد ان تفرغ هذا فى ذاك .. هذا هو شعور اصحاب التفكير الزائد.

احيانا كنت اعجب من رؤية صاحب الدكان فى أن يجلس ساعات طويلة من النهار ينتظر زبائن قليلة ويتأمل فى الشارع والناس .. كنت اتسائل كيف يتحمل هذا الملل .. ثم أدركت  ان ليس كل الناس لهم قدرات ذكاء واحدة .. هناك من يفهم المشهد فى لحظة وهناك من يمكث ساعة إلى ان يفهم النكتة ويدرك انها كانت عليه .. سرعة تحليل المعلومة وابتلاعها والتفكير فى المعلومة التى بعدها تختلف من شخص لأخر .. وبالتالى فلا يصلح ابدا ان يعمل الذكى فى مهنة تتطلب الانتظار والوحدة .. انه يملك طاقة كبيرة يريد ان يفرغها سواء فى الكلام .. حل مشكلة .. الكتابة .. الرياضة .. الرقص .. ولو لم يفعل ذلك سرعان ما تتحول افكاره إلى سلاح ضده .. تلكم وتوخز كل جزء من جسده .. يمكنها أن تتحول لقلق .. وسواس .. لأنه افكاره تلف وتدور ثم تعود إليه كأنها حبل يخنقه .. لذلك فإنى لا اجد علاجا لأصحاب التفكير الزائد سوى العمل .. والرياضة .. والكتابة .. والخروج مع الاصدقاء ...

قابلت احدهم مرة كان يصعد جبل كاترين ووجدته يقول (اعتدت ان افعل ذلك كى افرغ طاقتى) .. وقد كان سبب غريب بالنسبة لى .. الناس تخوض هذه التجربة الصعبة من أجل اهداف نبيلة .. كمعرفة الخالق .. أو التواصل مع انفسهم .. او التحدى .. لكن أن يفعلها لأجل (تفريغ الطاقة) فكانت المرة الأولى التى اسمعها .. لكنى ادركت بعد سنوات أن الانسان الذكى لا يصلح ان يكون قوة فكرية فقط .. تشحذ خيالها كلها فى التفكير والتحليل ثم لا تنجز الكثير من العمل .. لا تستخدم البدن فى تنفيذ ما تعلمته واستنتجه وتحويله الى تجربة حياتية .. لقد قابلت أناسا يملكون عقولا هائلة لكن افعالهم يشوبها الجبن والتردد .. وقد كنت اظن انهم جديرون بالاعجاب لكنى حينما قابلت أحد الشخصيات التى تتباهى بعضلاتها الفكرية وجدته مثير للملل .. أريدك ان تحكى لى عن تجارب خضتها وليست نظريات استنتجها .. ان الكتاب الذى يمتلىء بالكلام النظرى دون القصص والحكايات كتاب ثقيل ولا تستطيع تذكره فى النهاية .. بينما كتابا ك(فن اللامبالاة) جدير بان تتأثر به لأن الكاتب مارك مانسون خاض تجربة ثرية مليئة بالمحاولات رغم سنوات عمره القليلة .. فهو يحكى عن تجربة حقيقية ومشاعر احسها حتى الاعماق.. لكن التفكير الزائد دون تجارب جريئة يقود إلى حلقة مفرغة ويؤدى إلى ان يعجز الانسان حقا عن العمل .. بل وربما يؤدى إلى خلل فى عقله السجين الذى لم ير الشمس والنور ويخوض الالم بشجاعة ..

كيف نبدأ العمل على علاج هذه المشكلة .. أولا علينا أن نفهم كيف بدأت .. حينما نبدأ فى خوض يومنا مثلا فإننا نفكر فيما يفترض علينا فعله .. وهذا يؤدى إلى صورة من المثالية نرسمها بصرف النظر عن احتياجاتنا واستعدادنا النفسى .. مثلا نفكر أن نقوم برحلة فنبدأ فى البحث عن افضل الرحلات والرفقة والطقس وارخص الاسعار .. هذا جيد لكنه يجب ان لا يتعدى يوما أو يومين فى البحث ثم ننفذ القرار .. لأن التأخير يؤدى إلى الغاء الفكرة لأنك ستظل تفكر إلى ان تصل الى (لست بحاجة للسفر على أية حال) .. تخيل ان يكون هذا نمط حياتك .. مجموعة من القرارات التى تفكر طويلا فى اتخاذها ثم تلغيها وتؤجلها .. انك لا تعيش اصلا وتترك الاحداث هى التى ترغمك على الفعل .. لذلك يجب أن تدرك انك لست بحاجة الى المثالية .. لانك مهما خططت فإنك لا تعرف ماذا ستقابل فى الرحلة وما الذى سيحدث .. انك مهما فعلت لا تملك أى معلومة عن لحظة فى المستقبل .. ولن يصل تفكيرك الذكى إلى تخيل ما سيحدث .. فأتخذ القرار حتى لو كان متهورا .. هذا بالنسبة لى افضل من التردد فى اتخاذه لأنك فى الحالة الأولى ستعرف ما إذا كان صحيحا أم خاطئا .. فى الحالة الثانية لن تعرف ابدا..

العلاج فى أن تفعل .. تتهور .. اننى لا احدث شخصا عاديا .. بل احدث انسان يعانى بسبب تفكيره الزائد .. وعلى هذا لابد ان يفعل ما لا يفعله الشخص العادى .. عليك أيضا ان تنشغل طوال الوقت .. حتى لو كان ذلك غير مخططا .. تنشغل بممارسة الرياضة .. الطبخ .. الكتابة .. فعل اى شىء .. أن المعادلة بسيطة جدا .. الادخال = الاخراج.. ولأن حياتنا اصبحت اسهل والاكل والدهون والمعلومة متوافرة بشكل اكبر .. فهذا معناه ان الطاقة المختزنة زائدة ولابد من تفريغها .. دعنا نتحدث عن التخطيط فى مرحلة اخرى حينما تكون قد نفذت اشياء بالفعل .. 

لكن الان فى اثناء فترة العلاج .. 
فالدواء فقط أن تنفذ .. 
وأن تتهور..






أريد أن احكى عن تجربة حدثت لى .. ربما كانت بسيطة لكنها أثرت فى تأثيرا بالغا .. كنت قد تعلمت السباحة منذ فترة طويلة ولكنى لم أكمل ابدا شوط واحد من أول حمام السباحة إلى اخره .. لابد أن أتوقف دوما فى المنتصف ثلاث مرات مثلا .. ولأننى تعلمت السباحة فى المنطقة الامنة لم اجرؤ على الدخول إلى المنطقة العميقة وانا على هذه الحال .. كيف سأقف على قدمى إذا توقفت عن السباحة .. كان هذا الامر يسبب لى احباطا لأننى لا استطيع ان اقاوم مخاوفى .. وانى اعتبر انه كلما استسلم الانسان لحائط من الخوف دون ان يقهره فأنه يبنى بيديه أسوار سجن يخنق قلبه وافكاره وانسانيته.

وفى أحد ايام الشتاء قررت النزول واعادة المحاولة بعد سنوات من التوقف .. كانت أكثر تركيزى على مقاومة طوفان الافكار .. وكنت ادعو الله فى سرى يارب اجعلنى انجح تلك المرة .. كنت أجد نفسى اقف فى المنتصف لأنى لم اعد استطيع ألتقاط انفاسى .. لقد كانت مجهودى الذهنى كله متركزا فى الدفاع ضد الافكار السلبية .. وفى التساؤل هل سأفعلها تلك المرة أم لا .. وهل الله سبحانه يختبر صبرى وثقتى أم أن الامر ليس مهما أن أتمه هذه المرة ... وانه سواء نجحنا أم لا فلا يعنى ان الله لا يسمعنا .. افكار كثيرة جدا كانت تجعلنى أشهق واصعد للسطح .. ولكنى قلت (أصبرى وثقى فى الله) .. ثم حدث شىء غريب للغاية .. فى اللفة الاخيرة وقد كنت حددت لنفسى ساعة لا غير أحاول فيها .. وجدت ان الامر صار بسيطا .. وان افكارى اصبحت هادئة ولا يوجد ضجيج بالداخل .. ثم وجدت اننى وصلت .. لم اشعر بنفسى سوى حينما وصلت .. كل السيناريوهات التى رسمتها فى عقلى عن نضال اللحظة .. وصعوبة اللحظة .. والحرب التى سأخوضها .. كلها تلاشت حينما وجدت الامر يحدث ببساطة .. أدركت حينها أنك حينما تصل فإنك لا تكاد تشعر بذلك .. يكون الامر وكأن هناك يد خفية تدفعك بلطف وليست تلقى بك .. تذكرت لحظة الصعود لجبل كاترين .. كانت شبيهة بذلك .. حينما تقترب من القمة فأنك لا تكون لاهثا خائر القوى ترتمى على الارض فور الوصول .. بل تصل وقلبك متلهف لرؤية غروب الشمس وقد نسيت تعبك واجهادك التى كنت تتأوه منه منذ ساعات .. فى كل مرحلة من حياتنا فإننا كنا بداخل ألم ما .. صراع ما .. نتمنى أن ينتهى .. وان نرى أنفسنا فى الاخر وقد حصلنا على ما نريد .. ننظر لهذه الصورة وكأنها لن تحدث ابدا .. لكن حينما تحدث فإننا نكون عندها فى وسط اللحظة بالفعل .. تخطينا عنق الزجاجة ونحن لا نشعر.

لماذا أقول هذا .. لأننى اريد ان نتخلص من نفاد الصبر الذى يروادنا فى كل لحظة .. يروادنا ونحن سعداء .. ونحن فى ابتلاء .. ونحن فى أفضل حال .. اننا نريد القفز دوما .. الوصول بسرعة .. لكنى اسأل تصل لماذا بالضبط؟ .. لماذا تركض اصلا .. أن الارض دائرية .. والشمس .. والقمر .. والحياة كلها دائرية .. ونحن فى سيرنا فى الحياة نحاول العودة إلى نقطة البداية .. إلى الله سبحانه .. وبالتالى فلا معنى للركض الذى يمنعك من الوقوف والتأمل والتفكير فيما يحدث لك .. إن لم تعش كل لحظة من حياتك .. إن لم تفهمها .. وتفهم لماذا تمر بهذه التجربة أو تلك.. وترى يد الله سبحانه تعمل فى كل شىء .. فلن تفهم ابدا أى شىء آخر .. يعنى مثلا من يمر بحالة من الحيرة والتوهان فى حياته .. لا يدرى إلى أين يمشى .. او ما هى الخطوة التالية .. فهو بحاجة اولا قبل أن يفكر فى الحلول أن يفكر أولا ان الله يعلم جيدا وضعه .. وقلبه ونيته وحيرته .. وانه جعله يمر بهذه الحالة كى ينتقل من حالة غيبوبة كان يعيش فيها طويلا .. غيبوبة من اتباع هواه وتهوره وغروره واحلام غير واقعية .. إلى حالة اخرى من البحث عن الاستقرار النفسى والسلام الداخلى .. عندها سيطمئن إلى ان هناك العليم به فيبدأ فى السعى والاجتهاد للخروج من ازمته .. وهو واثق انه سيصل لأرض جديدة مليئة بالنور.

الفكرة كلها فى اخلاص القلب حقا للوصول لله .. ولمعرفة الحق .. وفى ان تصبح انسانا صالحا .. وإذا لم تكن على هذه الحال فتأكد ان أمواج الحياة ستتقاذفك بين تجارب عاطفية فاشلة .. وأهداف تحققها ثم تزهد فيها .. وتخبط وصراعات لا تعرف الصح فيها من الخطأ .. والكثير الكثير من الصراخ والحروب النفسية ..  حينها ستدرك ان هناك خط أمان اخير .. خط لا يحاربك ويضطهدك ويقهرك.. بل يحبك ويجيبك بكل لطف ورحمة .. ستظل كذلك حتى تنعدل البوصلة تلقائيا فى النهاية لله رب العالمين .. فإذا انعدلت توقف الصراع .. حكت لى صديقتى مرة عن تعبير دقيق ورائع جدا وهى توصف لى كيف وصلت للسلام النفسى .. كانت تقول (كنت أشعر دوما فى حياتى وكأن هناك اثنان يتصارعان .. لكنى الان وبعد القرب من الله اشعر انهما اصبحا فى صف واحد فى مواجهة الحياة) .. قال الله عز وجل (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وأن الله مع المحسنين).





الاستعراض هو مرض العصر .. ولن أقول أن الاستعراض هو صفة تخص فئة من الناس .. بل اننى اراها فى الالاف من الناس حاليا .. ربما يكون انا وانت ممن يصيبهم هذا الهوس من آن لآخر .. هو فى بعض الناس صفة ملازمة .. ولكن نوبات الاستعراض تنتاب الكثير منا أثناء ملازمة مواقع التواصل الاجتماعى .. وتمس حتى العاقلون الناضجون وهو ما جعلنى اؤمن بضعف الانسان أيا كان علمه وخبرته فى الحياة .. وبضرورة ان ينتبه لصحته العقلية والنفسية والجسدية فى كل مراحل حياته .. لا يرتكن إلى علم ولاسن ولا خبرة حياتية.

لن اسهب طويلا فى أسبابه السطحية .. كالشعور بالغيرة أو الرغبة فى قول (أنا موجود وسعيد وناجح) بصرف النظر عن مصادقة ذلك الواقع .. أو كالمرور بأزمات وجودية وإحباط يجعل المرء يحاول احراز اى نوع من النجاح وإن كان من خلال الاعجاب والتشجيع .. لكنى سأحاول الغوص فى نتائجه وعلاجه .. ما الذى سيحدث لو أننى قضيت جزءا كبير من الوقت .. أو حتى شطرا منه فى محاولة استعراض الصور .. الافكار .. التجارب .. وانى لا اتحدث هنا عن النوايا الصادقة فى مشاركة التجارب والحكمة .. هذا بالطبع هو الرائع فى الأمر والذى يترك أثره الحقيقى فى الناس .. الكلمات الصادقة التى تخرج ملتهبة من الصدر .. التى لا تريد سوى النصح والإصلاح .. لكنى اتحدث عن مشاركة التجربة للاستحواذ على المدح والتشجيع .. ما الذى سيجنيه حقا؟ .. لا شىء.

لماذا لا شىء .. لأننى رأيت أكثر من انسان يموت فى خلال سنة واحدة .. ورأيت أن جميعهم بكل تاريخه العريض والطويل من التجارب الانسانية ذهب إلى الاخرة بلا شىء سوى عمله .. ونيته فى هذا العمل .. أما الباقى فلا يدرى عنه ولا يهمه مهما تكاثر محبينه ومعجيبه ومن يكتبون سيرته الذاتية ويحللون أفكاره العظيمة .. وهو إدراك يجعلك تتسائل .. ما تلك الحماقة التى اضيع عمرى فيها؟ .. لماذا لا انتبه لبناء الآخرة .. أن أى عمل لا يكون خالصا لوجه الله تذروه الرياح .. لا قيمة له أصلا .. فإذا ما نظرت إلى نظرات الاعجاب وكلمات المدح والتأييد ولذتها اللحظية.. فإنك تجد ان الامر لم يكن يستحق ساعة واحدة .. بل جملة تكتبها من أجلهم .. هذا أولا ... ثانيا حينما تفكر أنك تشارك التجربة كى تشعر بفرحتها ولذتها فإنى لأعجب ما الذى يجعلك لا تسعد بها وانت تنظر إليها من فوق سريرك؟ .. وانت تتأمل صور الماضى السعيد وتستعد كل ذكرى حلوة وتبكى حنينا لكل شىء احببته .. لكل شىء تغير فيك .. لكل تجربة أنطبعت معالمها داخل خلايا قلبك .. أليس كافيا سعادتك تلك .. لماذا نبحث عن تأكيد (الاخر) لسعادتنا وحكمتنا ..  الحكمة تقول (ليس هناك ذكيا يقول للناس انه ذكى .. كما انه ليس هناك سعيدا يمشى يكرر من وقت لآخر انه سعيد) .. ان السعيد حقا بتجربته هو الحريص على أن يسمع تجارب الاخرين ويسوق إليهم تجربته كى يعنيهم ان يجدوا الطريق ايضا .. أن يكتشفوا ويعرفوا كما عرف .. لا أن يشعروا بضآلتهم معه وعدم قدرتهم على مسايرة تجاربه.

اننى اجد الناس دائما تنظر لبعضها .. حتى انهم ينظرون لطعام بعضهم رغم ما فى اطباقهم من مكونات رائعة .. انهم يخافون ألا يحصلوا على الاحسن .. أو يفوتهم شىء .. لذلك فهم ما بين تطلعهم للغير أو محاولة للاثبات للغير انهم الافضل .. لكن شعور الرضا ليس كذلك .. الرضا شىء داخلى ينبع من احساس عميق بالامتنان والحمد لله على نعمه .. على الصحة والعقل والطعام والسكن والجو الجميل والقمر وإلى ما لا نهاية من نعمه .. انه شعور حينما تكرر من قول (الحمد لله) يغمرك حتى تظن انك لا تستطيع الكلام .. لا تستطيع أن تعد النعم .. ولا تستطيع أن ترد الجميل .. لكنك تستطيع شىء واحد .. أن تقول الحمد لله .. تستحق يارب ان تكون العبادة كلها لك .. والعمل كله لك ..


إذا حاول بكل قوتك ان تقاوم هذه النزعة التى من السهل أن توجد فى أى واحد منا .. بل انها نزعة اساسية إذا أرتبطت بالدنيا لأن الانسان ظمآن دائما للحب والقبول .. وهو فى رحلته يبحث عن نبع يرويه من وقت لآخر .. فإذا لم يكن ذلك النبع حقيقيا وقويا لجأ إلى البرك والمستنقعات والوحول كى يجد قطرات ترويه .. الاستسلام لحب الاعجاب مخدر مريح ومبهج .. لكن يجب أن تراقب تراكم المشاعر .. فالانسان الذى اعتاد الغضب مع الوقت يصبح نوبات غضبه بركانية بلا حد .. والذى أعتاد الاستعراض يصبح دائما عطشان لكلمة استحسان .. ذليلا بحق للناس حتى لو كان فوق رقابهم وتجاربه ثرية وواسعة .. وان الذل لصفة جديرة بأن تمقتها وتبغضها وتبغض كل طريق يؤدى إليها.. وتأكد انك حينما تعدل البوصلة لله رب العالمين .. ستجد انك تريد مشاركة كل خير .. وأن كلماتك القليلة وتجاربك الصغيرة يمكنها أن تغير أمة بالكامل إن شاء الله .. فالله يبارك فى الصدق ما لا يبارك فى غيره (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء .. تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال فى الناس لعلهم يتذكرون).

 فاللهم عافنا وأصلح قلوبنا ونعوذ بك ان نشرك ما نعلم ونستغفرك لما لا نعلم واجعلنا يارب هداة مهتدين.



لا تكتب لأحد

by on 8:11 AM
الاستعراض هو مرض العصر .. ولن أقول أن الاستعراض هو صفة تخص فئة من الناس .. بل اننى اراها فى الالاف من الناس حاليا .. ربما يكون انا ...



سأحكى لكم عن قصة قرأتها لانطون تشيخوف الاديب الروسى المعروف .. قصة بعنوان (مغنية الكورس) .. يحكى فيها عن رجل يدعى (نيقولاى) اخذ يتردد على بيت مغنية عاهرة (أوشا) كل يوم ويبادلها الحب .. ثم انه فى يوم زارتها زوجته فجأة دون ميعاد ونظرت إليها فى البداية بإحتقار واهانتها .. واخبرتها ان زوجها قد انفق مال عهدة لديه وانه مهدد بالسجن وتشرد الزوجة والاولاد .. واتهمت الزوجة (أوشا) بأنها السبب فى خراب بيته وانه كان ينفق ماله عندها .. كانت أوشا خائفة منها ومرتبكة بينما كانت السيدة تهينها حينا ثم تتوسل إليها حينا ان ترد لها الاشياء والهدايا التى أتى بها حتى تنقذه من السجن .. وفى النهاية هددتها ان تركع على ركبتها كى تعطيها الاشياء .. لم تحتمل (أوشا) ذلك واعطتها كل الهدايا حتى تلك التى لم يأت بها (نيقولاى) .. ورحلت السيدة وخرج الزوج وقد كان قد سمع الحديث كله .. القصة أنتهت ان الزوج قد غضب وبكى ألما أن رأى زوجته الشريفة الطاهرة تركع امام (أوشا) .. شعر بحقارته ان أوصلها لهذا الوضع وخرج من عند (أوشا) وهو يلعنها ويلوم نفسه ألف مرة على أوصل امرأته كى تركع أمام عاهرة.  

رأيت فى هذه القصة دروس جميلة .. منها أن الرجل مهما بلغ حبه لأمرأة سيئة السمعة ولهثه ورائها فأنه لا يقدمها ابدا على زوجة شريفة .. وان قيمة (العفة) و(الشرف) يتصدران مسابقات الجمال لدى النساء .. فكرت لماذا لا يكون الأمر للمرأة مثل الرجل .. لماذا لا تكون خيانة الرجل مروعة بل ومدمرة مثلها عنده .. ربما هى تحترق ألما حينما تعرف بخيانته لكن يمكن أن تسامحه وتقبل أن تقف بجانبه .. بينما الرجل لا يغفر ابدا هذا الأمر .. لا يعود .. ولا يسامح .. المرأة تشعر بأنوثتها وتحارب لأجلها لكنها فى ذات الوقت تقبل ضعف الرجل وتعتبر أن ضعفه هذا قد يحفزها للانتباه لأنوثتها أكثر .. لأن فكرة المنافسة عموما تستدعى دائما أن تكون فى حالة استعداد وانتباه .. وهذا شىء إيجابى وإن كان مؤلما .. وأنا لا أقول أن تحب المرأة رجلا ملتفتا لا يشبع .. بالطبع لا تتمسكى سوى بالامين الطاهر مثلك .. ولكنى أقول إن كان قد زلت قدمه فهذه التجربة الصعبة يمكنها أن تساعدك بأكثر مما تساعده ..

أما فى حالة الرجل فالأمر مختلف .. لأن الخيانة تعنى انه يمكن أن يربى ولدا غير ولده .. انه ينظر لأولاده فلا يطمئن إلى من يحمل أسمه .. فالامر فى هذا الحالة مؤذى للرجل وللمجتمع ككل .. لذلك ففى فطرة الرجل الأمر اقوى ألف مرة وغير قابل للتفاهم .. تحاول الافلام والتوجه الاعلامى ان تخمد هذه الفطرة وتعطى لها مسكنات قوية بإسم الحب والحرية .. لكن حينما يصطدم الرجل بواقع خيانته فعلا فأنه يثور ويتألم ألما لا حد له .. حينما أرى رجلا يتباهى بكم النساء اللاتى اوقعهن فإنى اتسائل حقا لماذا يظن ان الامر لا يمكن أن يحدث فى عقر داره؟ .. إذا كان هو قد استباح بنات الغير .. وزوجات الغير .. فلماذا يظن ان هذا لا يمكن أن يحدث معه؟ .. وقد قرأت قصة لرجل يحكى انه عندما خانته صديقته مع معلمها فقد شعر وكأنه قد تلقى مئات اللكمات فى بطنه دفعة واحدة .. ولايزال بعد سنوات طويلة يكرهها .. رغم انه رجل أمريكى يؤمن بالحرية وواعد الكثير من الفتيات .. إلا ان الأمر كان صعبا جدا بالنسبة له.

لذلك حينما اقرأ فى كتاب الله عز وجل وصفه للحور العين (كأمثال اللؤلؤ المكنون) .. لم يشبهها الله سبحانه بالوردة .. ولا بالقمر .. لكنه شبهها باللؤلؤ المحفوظ داخل صدفة مستورة عن الاعين ... ووصفهن ايضا (قاصرات الطرف) يعنى لا ينظرن لغير أزواجهن ... وانى اؤمن ان المنهج الربانى هو الذى يجعل الانسان يكتشف نفسه جيدا .. ويعرف أفضل ما فيه .. ولذلك حينما يمدح الله سبحانه هذه الصفات ويأتى بها مع جمال الشكل دائما .. فهى جزء من الجمال لا ينفك عنه.


حينما أركب عربة المترو وانظر للفتيات والنساء اجدهن لا يختلفن ابدا فى الاهتمام بالجمال .. كلهن .. السمراء والشقراء .. والسمينة والنحيفة .. والفقيرة والغنية .. كلا بحسب مقدرته .. اشعر وكأننى دخلت حديقة ورد واجد ان تلك المهملة فى نفسها .. لا تهتم بنظافتها ولا هندمة ملابسها ولا نضارة بشرتها أقرب لمخلوق بلا طابع معين .. لا انثى ولا رجل .. انها تعيش بلا روح حتى وإن اعطت وقتها للعمل أو المذاكرة أو أى عمل نبيل آخر .. إن جمال الشكل جزء أساسى من تكوين الانثى .. ولكن حينما أيضا أرى فتاة تلبس الضيق وتتسكع فى مشيتها فإنها تخبر الناس جميعا(انا مشروع عاهرة) .. ربما تعتبر بعض الفتيات أن نظرات الرجال هى ضمان انوثتها لكنى اريد ان اصارحك بشىء .. انهم ينظرون دائما .. لو مرت قطة متشردة من امامهم سينظرون .. إن هذا يدل على عيب فى نفسه وانك رخيصة فى نظره وليس انك جميلة .. واننى هنا لا اتحدث عن نفسيات الرجال وأفكارهم فدائما أقول أن ليس من أولوية المرأة ان تدرس وتحلل الجنس الآخر بقدر ما يهم نظرتها لنفسها .. واحترامها لنفسها .. وتقديرها لأنوثتها .. لو فهمت حقا ان الانوثة هى جمال الشكل والعفة والحياء والستر .. لكفاك أن تجدى نفسك وتهتدى للأنثى التى بداخلك ولا يهمك بعدها أحدا.. وانى أرى أن اول الطريق يبدأ من قول الله عز وجل (قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن).  




تخيل انك تسقط فى قاع بلا نهاية .. انك تصرخ صراخا عاليا ثم تجد ان هذا الصراخ لا ينتهى .. لا تكف كلمة (ااااه) عن التردد فى المكان .. هل تصدق هذا؟ .. ببساطة هو لا يمكن .. لم يحدث ابدا ان رأيت احدا يسقط للأبد .. هكذا قانون الجاذبية فى الحقيقة .. هناك أرض دائما تستقبل الاشياء .. مهما طال الطيران فى السماء لابد أن ترتطم بأرض شديدة الصلابة.

حسنا .. بما أن هذا قانون الاشياء المادية فإنه بالضرورة قانون أفكار الانسان ايضا .. لا يمكن أن يظل خيال الانسان مجنحا يطير فى سموات بعيدة ثم لا يحط على أرض .. وإذا ما حدث ذلك فإن الانسان يغرق .. من لا يجد ارض يستقر عليها فإنه بعد فترة من الوقت ستتدافع الافكار إلى رأسه وحلقه وتكتم انفاسه .. لأنه كلما حاول أن يقيس سلوكه وأفعاله إلى قيم لا يجد ثباتا ولا ايمانا بشىء .. انه يجد أرض لا تلبث أن تتهشم تحت وطء الاحداث والتجارب .. دعنا نتفق انه من الصحى تماما ان تنكسر مستويات الوهم التى نقف عليها من وقت لآخر.. لكنى اتحدث عن تلك الارض الاخيرة التى تستقر عندها أقدامه .. هل يملكها؟ .. هل يعرفها؟ .. هل وصل إليها قبل ذلك؟ .. ربما فى حياتنا العادية نعتبر الغرق شىء استثنائى .. شىء يفضى إلى الموت .. لكن فى عقل الانسان فإن الغرق هو بداية رحلته الفكرية .. وهو فى هذا يجاهد كى يجد الارض التى يطمئن إليها .. لكن فى نهاية التجربتين .. سواء تجربة السباحة الجسدية أو الفكرية .. لابد كى تحيا أن تلمس تلك الارض وتثبت عليها لأنها التى ستقيس عليها كل شىء يحدث لك .. والتى تفسر على أساسها ما تمر به من تجارب حلوة ومؤلمة.

قرأت فى كتاب (فن اللامبالاة) لمارك مانسون .. وهو بالمناسبة كتاب رائع مر صاحبه بتجربة حياة ثرية .. لكنى لا أرى السبب هو التجربة فقط .. بل عقله المستنير الذى هداه الله عز وجل كى يستنبط افكارا صحية من تجاربه.. كان يقول (إن الانسان يتحمل مسئولية كاملة عن مشكلاته .. ربما لست قادرا دوما على التحكم فيما يحدث لك لكنك بالتأكيد مسئول عن التحكم فى كيفية تفسيرك لما يحدث .. إضافة إلى تحكمك فى كيفية استجابتك) .. لكنى تسائلت (كيف يمكن أن يفسر الانسان احداث حياته تفسيرا صحيحا؟ .. هل فسر التجربة بطريقة صحية أم انه متأثر بغضبه وانفعاله وهوسه بأن يبرر اخطائه ويلقى التهم على الاخرين .. لذلك فإن معيار الهوى لا يصلح بأية حال ان يستند عليه الانسان .. لأن الهوى جاهل بجهل الانسان وقلة خبرته .. وقليل الصبر على المتعة والشهوة .. ويميل إلى الكسل والخمول .. كما انه يحب كثيرا أن يأخذ ولا يعطى إلا اذا وجد مبررا قويا ومصلحة لذلك .. وبالتالى فإنه سيبرر مواقف الحياة من هذه المعايير السيئة .. لذلك قال الله سبحانه ( ومن أظلم ممن أتبع هواه بغير هدى من الله) .. (أرأيت من أتخذ الهه هواه) .. ذم الله سبحانه هذا المعيار لأنه يأخذ بيد الانسان إلى حفرة مظلمة.

تسائلت هل يمكن أن يكون المعيار تجارب الناس وأفكار علم النفس والفلسفة وقراءة الأدب والفكر والسير الذاتية .. انها مادة ثرية جدا تعلمت منها الكثير وكانت لى محيط من العلم والخبرة .. اننى انظر لكتاب سيرة ذاتية وكأن أحدهم أمسك بعمره وضغطه وعصره واعطانى خلاصته فى زجاجة .. لكنى لازلت أرى علم الانسان قاصر .. ومتأثرا ايضا بالهوى .. وبالكذب .. وبالرغبة فى تبرئة نفسه من اخطائه .. وبحقيقة أن القوى هو من يسرد التاريخ .. وان خيال الفنانين احيانا يشط عن أرض الواقع .. بل كثيرا ما يجعل الناس تعيش حالة من الوهم تجعلهم أكثر تعاسة .. اننى اتحدث عن الجوانب المظلمة من التجارب الانسانية وليس باب النور الذى ينفتح فى النهاية .. سألت مرة أحد علماء الفلك وقد كان يشرح كيفية تحول الفرضية إلى حقيقة علمية .. ورسم لنا هرم متدرج يبدأ من نقطة التأمل والمشاهدة لظاهرة كونية تحدث .. مرورا بالفرضية .. ثم القياس واختبار الفرضية فى ظروف مختلفة .. إلى ان تتأكد حقيقة علمية من الصعب نقضها .. سألته (هل يمكن أن يحدث ذلك مع العلوم الانسانية؟) .. قال (هذا صعب .. لأن البشر ليسوا كالحديد خواصه لا تتغير .. البشر يختلفون من مكان لآخر ومن وقت لآخر) .. وهذا شىء اجده رائعا جدا ومثيرا للفضول والبحث .. أن يكون عقل الانسان لا يجاريه مخلوق من مخلوقات الارض.

لكن هناك حقيقة فيما قرأته فى الكتب وتجارب الناس .. ان الخير مثلا أقوى وأعمق من الشر .. بل إنه فى قلب الشر .. ومعنى ذلك انه حينما يتأكل الكذب والغضب والقسوة والقتل والخيانة وتمر سنوات طويلة عليه يلتهم بعضه بعضا .. يصل الناس فى النهاية إلى معانى الصدق والرحمة والسلام والنور .. وجدت فى المذكرات الانسانية دائما أن الانسان حينما يمر بفترات كان فيها انانيا قاسيا مزيفا فإنه كان يعانى .. بينما حينما يبدأ فى العطاء والحب فإن كلماته تفيض بالرضا .. كلمات الحكمة متشابهة جدا وتتكرر كثيرا.. وكلما كانت تجارب الانسان عميقة ومؤلمة كلما كان احساسه بها أعلى وإيمانه أقوى .. لم يخبرنا احد كيف نفعه الشر والانانية فى تحقيق احلامه .. وإن فعل فإن نهايته الحقيقية لهى أصدق راوى عن حياته.

لقد وجدت ان أفضل أرض .. وأثبت ارض .. الارض التى لا يخاف الانسان ان تتهشم من تحته .. هى الايمان بالله .. وبكتبه ورسله .. لأن كل ما اخبر به من الحكمة كان صادقا ... ولأن السلسلة الانسانية التى تسلمت الكتاب ومُرر المنهج الربانى من خلالها لم يُعرف عنها سوى الصدق والاحسان .. لم يعرف احدا عن ابراهيم أو عيسى أو موسى او محمد عليهم الصلاة والسلام جميعا أن احدا منهم كان يسعى لشهرة ومال .. او صار ملكا من الملوك .. كلهم أتوا الدنيا وذهبوا وسيرتهم نظيفة تماما وأثرهم لا يزال موجودا بعد الالاف السنين .. لذلك فإن بداية ثبات الاقدام هى البحث عن الله ذاته .. اليقين من وجوده .. ستعرف ذلك فى كل شىء .. بداية من سؤالك (من اين اتيت وإلى اين أذهب ولماذا خلقت) .. تلك الاسئلة التى لا يكف العقل عن إلقائها فى وجهك من وقت لآخر .. إلى استنجادك بقوة عالية فى وقت الكرب والوحدة والألم والحيرة واستجابتها لك فى كل مرة .. لا تكف عن الرد والاجابة والرحمة .. مرورا بكل تفاصيل الكون الدقيقة والمذهلة والمتناغمة فى خلقها جميعا .. أن حقيقة وجود الله عز وجل تجعل الانسان يطمئن تماما إلى وجود ركن شديد يستند إليه ... فإذا ما بدأت من تلك النقطة وتسائلت عن معايير الصح والخطأ .. ستجد فى كتابه ما لا يخالف منطق العقل وما يدعم منظومة الاخلاق التى يرتاح إليها ضميرك.. هى الارض التى يبدأ منها من يريد حياة صحية متزنة سعيدة .. أو الأرض التى ينتهى إليها مسافرا حائرا رمته امواج الحياة بعد رحلة طويلة.






هل يمكن أن يتحول سؤال (ماذا لو) إلى (ما الفارق) .. نعم .. بل اننى اظن انها الاجابة الوحيدة لتكرار سؤال (ماذا لو) من غير عمل وتنفيذ ورؤية النتيجة .. ستقول لنفسك (ماذا لو سافرت) ثم تقضى سنوات تسأل السؤال دون محاولة جدية لجمع مال رحلة واختيار البلد واتخاذ اجراءات السفر .. سيتحول يقينا إلى سؤال (ما الفارق بين جلوسى فى المنزل وسفرى إلى امريكا الاتينية .. حتى اننى اظن ان الجو هنا افضل ولا يوجد فارق كبير بين الشوارع هنا وهناك) .. لقد قال أحدهم مرة ( ان جورجيا تشبه كثيرا جمصة عندنا) .. ولو لم أكن سافرت إلى جورجيا بنفسى لصدقته وزهدت فى التجربة بكاملها ..

يظل الانسان يسأل ويملك الفضول لفعل اشياء كثيرة .. وتحفزة الاحتياجات إلى اتخاذ قرارات أسرع .. كل هذا انت تملأ السيارة بالبنزين وتستعد للانطلاق إلى رحلة عظيمة .. لكن ما المشكلة .. الفرامل .. تلك التى تضغط عليها من وقت لآخر وتقف بالسيارة بلا سبب سوى الخوف .. كثرة الضغط على الفرامل يجعلك تشك فى جدوى الرحلة كلها .. فقد اجهدت نفسك فى النزول والصعود من العربة .. فى التفكير .. والقلق .. والصراعات الداخلية .. لقد تعبت جدا .. ولم تعد تملك من الحماس الذى كنت تمتلكه فى بداية الرحلة .. وامتلأت رأسك بأسئلة اخرى جحبت السؤال الاساسى .. افترض مثلا انك قررت أن تتزوج .. وعقدت العزم فى البحث عن عروس جميلة ترتاح إليها وإلى اخلاقها وأهلها .. ثم دخلت أكثر من بيت وكلما قابلت واحدة .. تملكك الشك والخوف من التجربة .. لا احبها .. اهلها طماعون .. صوتها بعالى .. واثقة فى نفسها بزيادة .. وضعت قائمة طويلة لم تكن فى بالك اصلا وانت تبحث عن العروس .. توقفت العربة كثيرا أثناء الطريق .. ثم انك تكتشف فى النهاية ان الزواج مسئولية وان بنات هذا الجيل (متدلعة) .. وان الافضل البحث فى اختيارات بعيدة عن واقع يديك .. البحث الالكترونى .. التقليب فى صور فتيات من الهند وباكستان واندونيسا .. تقول لنفسك (لقد فتحت لنفسى افاق رائعة من البحث والاكتشاف) .. والحقيقة انك بذلك تبتعد تماما عن اجابة سؤال بسيط .. انك كنت تبحث عن انسانة ترتاح إليها وترتاح إليك ثم تقرران معا التضحية وكسر جدار الانانية الذى تفرضه حياة العزوبية .. والذى بالتأكيد سينهدم تلقائيا بعد الزواج والانجاب.

الفكرة كلها هنا انك تقف على الشط .. ماذا لو حاولت العوم .. ماذا لو هاجمنى قنديل .. ماذا لو لم أستطع التقاط انفاسى .. وصوت أمك الحانى يناديك من ظهرك (لا تتهور) .. فيتصاعد شعور آخر من الرضا النفسى انك بار بوالديك .. والنتيجة انك لم تحاول قط عبور الشط .. ولا اجابة السؤال (هل يمكن الوصول لقرص الشمس أم لا) .. هل تظن أن من خاض البحر هو إنسان ولد بطلا مغامرا شجاعا .. ان الخوف هو شىء اصيل فى النفس الانسانية .. كلنا يخاف .. ولكن الجبان فقط هو من لا يتجاوز مخاوفه .. هو من يكتفى برسم خيالات مخيفة ويعتبرها حدثت بالفعل .. فيمتنع عقله تلقائيا من التفكير فى المحاولة أو ايجاد حلول .. لكنى هنا لا اتحدث عن اللحظة الحالية .. تأكد انك الان لا تشعر بتأنيب ضمير جارف من تقصيرك فى اجابة (ماذا لو) .. لأنك ترى العمر طويل والشباب والقوة بين يديك .. ولا تتخيل ابدا ان العمر يمضى .. والشباب يقصر .. وان ما تستطيع فعله اليوم قد لا تستطيع ابدا فعله غدا .. انى فعلا لا أفهم لماذا ننظر للعمر نظرة أبدية وقد رأينا جنازات الموتى حولنا من حين لآخر .. لدرجة انى حضرت ثلاث جنازات فى أقل من سنة .. حتى صار معنى الموت بالنسبة لى شىء عادى .. يحدث فى أى وقت .. وكنت اسأل نفسى يا ترى ما هو الندم الاكبر فعلا .. هل الندم على انك لم تسافر .. او تعمل فى المهنة التى تحبها وترضيك .. أو الحب والزواج .. أم ان هذه كلها أمور لن تشعر بها بعد الموت .. وستعض اناملك من الندم حقا على تقصيرك فى حق الله سبحانه وفى معرفته وطاعته وفى بر والديك.


هذه الحياة ليست جنة .. ولا المطلوب فيها ان نصل لشعور الرضا والسعادة الدائم .. لأنه كما قرأت فى كتاب (فن اللامبالاة) فإن السعادة هى حل المشكلات .. هى عمل استمرارى وفعل لا ينتهى إلا بنهاية الحياة الدنيا .. نسميها مشكلات .. نسميها تحديات .. المهم انها مكونات الحياة الاساسية .. وعليك أن ترضى تماما أن الحياة هى سلسلة مستمرة من حل المشكلات.

أقول لهولاء الذين يفكرون طويلا .. وكثيرا .. أنكم لن تتجاوزون ابدا أسوار افكاركم سوى بالتجربة والتنفيذ .. وبالألم الذى تخافونه .. هذا الألم هو الذى سيحفزكم على الحركة .. وعلى التغيير .. وانا اؤمن تماما انكم الان فى تلك اللحظة تتألمون .. تتألمون من عدم المحاولة .. من عدم التذوق .. من السجن .. انكم تتألمون فى كل الاحوال فلماذا لا نحاول أن نخفف عن الالامنا بالعمل على اهدافنا التى نتمناها .. حتى ولو عمل قليل يرضى ضمائرنا المتعبة .. ليس المطلوب منك قفزة كنجاروية استرالية .. مطلوب منك قفزة انسانية بما تملك من عقل وصبر وطموح .. وقد قال لى رجل ناجح جملة رائعة ( طالما أنت مخلص فى نواياك تأكد ان الله سيكون معك .. وانه ما يبارك عمل الانسان فعلا ليس اجتهاده وتعبه .. بل توفيق الله وبركة دعاء والديه).