متى يعود المسافر إلى اهله




حينما انظر للناس أجد حالهم شتى .. ولكن يثير انتباهى الجالس الصامت الذى لا يكلم احد .. يتلفت حوله بحثا عن لا شىء .. عادة ما يكون رجل كبير فى السن قد ترك بيته وهمومه أو ترك الوحدة وأتى كى يجلس وسط ضوضاء المكان ..  فالضوضاء المزعجة بالنسبة له ونس كبير .. وقد كنت استغرب كيف يمكن أن يجلس احدهم لساعات دون أن يفعل شىء.. دون أن يجالس أحد .. او يضحك .. أو يتكلم ... اشعر كأنه يختزن الالاف الكلمات لكنه يعرف ان لا احد يهتم أو يبالى .. شعور قاتل .. لاشك ان الوحدة تختلف عن الخلوة .. الاولى معناها ان الناس ليسوا فى دائرة حياته .. انهم يعبرون امامه كالمسافرين .. لكنهم لا يصافحون بعضهم أو يلتقون ابدا.. لكن الخلوة شىء آخر .. صاحبها يملك حياة انسانية بالفعل .. لكنه يغادرها للراحة والاسترخاء من وقت لآخر .. ولكن الأصل هو أن تهتم .. وتتفاعل .. وتشارك .. وتحب .. لذلك فالانسان (الوحيد) ليس يمارس العزلة الايجايبة التى تغذى افكاره وتصفى باله كى يعود للحياة .. بل هو يقبع داخل سجن مظلم تخنقه افكاره.

السؤال هل يختار الانسان وحدته أم هى تفرض عليه .. تعال نمسك طرف الخيط ... كيف وجد الانسان نفسه فى هذه الجزيرة المعزولة .. بلا قارب ولا طائرة نجدة .. لا يمكن ان يستيقظ احدهم فجأة فيحدث ذلك .. فالطبيعى اننا جميعا ولدنا وسط أهل وزغاريد وضوضاء وصياح .. لقد كنا محاطين من أول يوم بالايادى تتلقفنا وتدغدغنا وتقرصنا وتقتحم منطقة الامان الخاصة بنا رغما عنا .. كان لابد ان يهتم بنا احد.. ما الذى جعلنا فجأة منبوذين .. يتجنبك الناس كأنك عدوى قاتلة رغم انك تحمل نفس الملامح .. بالعكس تملك امتيازات العقل والقوة حيث يمكنك ان تساعد بالكلمة أو الفعل.

هل استخدمت هذه القوة كى تجدف بأقصى قوتك ناحية الجزيرة المعزولة ... هل اضطررت للفرار هاربا .. مما كنت تفر؟ .. والسؤال الأهم هل فكرت فيمن تركتهم خلفك .. هل كنت تفر من القسوة .. النذالة .. الألم .. الرفض .. انك تفر من امور واجهها الناس جميعا .. كل الناس تتألم .. وتفارق .. وتُرفض .. لم اعرف احدا فى الحياة احبه الجميع .. الواقع انك تفر مما يتعرض له الانسان كى يشتد عوده .. فما هذه الابتلاءات إلا كى يقوى الانسان ويتعلم .. فأنت لا تهرب من الألم .. إنما تهرب من العلم .. تخسر دروسا كثيرة فى الحياة من أول سماعك لحكايات الناس وأحوالها ... الى معايشة تلك القصص والاحساس بها .. والواقع ان قليلا من الشجاعة وإهمال الاوهام والافكار السلبية يمكن ان يدفع بقاربك بقوة تجاه عالم البشر مرة اخرى ... هذا العالم الذى أراده الله عز وجل أن يكون مزدحما .. ومختلفا .. ومتشابكا.

السؤال الثانى .. لو انك قررت العودة وشعرت بكم الخسائر التى تجنيها وانت تنتظر النجدة على الجزيرة المعزولة .. لو قررت انه آن الاوان عودة المسافر إلى اهله .. فماذا يمكن أن يساعدك .. اعتقد ان عالم البشر فبالرغم ما فيه من القسوة والانانية .. فهو يرحب كثيرا بالاهتمام والحب .. انه ظمآن لذلك .. يبحث عنه كما تبحث نبتة الصبار عن قطرة ماء فى الصحراء الجافة ... لذلك لا تعود لو قررت أن تكون انانية تحمل حقيبة واحدة فيها ملابسك الشخصية .. لانك لن تجد احد يستقبلك على الشاطىء .. ولن يساعدك احد فى حمل الحقيبة او حتى يرشدك إلى اقرب فندق تستريح فيه .. بل عد وحقائبك فيها الحلوى والهدايا ... وقلبك يحمل الحب والشوق .. والرغبة فى المشاركة والمساعدة.. عد لأحبابك اولا .. الذين لم يكونوا سببا فى رحيلك ... ولم يسببوا لك الألم الذى جعلك تفر هاربا .. عد لهولاء الذين كانوا يصيحون فيك ان لا تغادرهم لأنهم يحبونك ويفتقدونك .. هولاء الذين نتوقع منهم ان يكونوا اول المستقبلين .. فهم الأولى بالحب .. وهم الذين سيسحبون القارب ويستقبلونك بالاحضان .. عندها ستشعر انك كنت مسافرا وعدت .. وليس انسان غريب عن المكان ... وسيكون عندك الاستعداد النفسى للعطاء والحب من جديد.

ان الوحدة تعنى افتقاد الحب .. وتراكم الافكار السلبية .. والاكتئاب .. انها تعنى ضيق الافق .. وسجن خانق .. وكلمة ماتت على الشفاه .. وضحكة لم تخرج .. ومشاعر مكتومة .. لذلك لا مفر من عودة المسافر إلى أهله.

No comments:

Post a Comment